بدعوة من صالون نهى زعرب قعوار، وجمعيّة الثقافة العربيّة، وجمعيّة إخوتي أنتم، غصّت قاعة جمعيّة الثقافة العربيّة في الناصرة بفلسطين بحضورِ عددٍ كبير من الأدباء والشعراء والأصدقاء والمثقفين والأقرباء من عائلة مخولي وبولس، وذلك بتاريخ 7-12-2011، للمشاركة في إحياء ذكرى د. سليم حبيب مخولي، ابن بلدة كفر ياسيف (1938-2011)، المتوفى في8-11-2011، وأيضًا للحديث عن إبداعِهِ المسرحيّ ونِتاجِهِ المسرحيّ ممثّلًا بمسرحيتيْهِ الوحيدتيْن؛ "الناطور" و"الزينة".
افتتحت اللقاءَ مديرة جمعيّة الثقافة العربيّة د. روضة بشارة بكلمة ترحيب بالحاضرين، وقالت إنّ الرّاحلَ الكريمَ تركَ أثرًا باقيًا بعدَ رحيلِه، تَمثّلَ في عددٍ وفيرٍ من الكتبِ الأدبيّة والأعمالِ الفنيّة، وحفرَ بصْمتَهُ الخاصّة على الحياة الثقافيّةِ في البلاد، وبهذا اختلفَ عن الكثيرين ممّن يمُرّون في دروبِ الحياةِ دونَ أن يتركوا أثرًا يُذكَر.
أمّا الكاتبة نهى زعرب قعوار فتولّت عرافة اللقاء، فوجّهت الشّكر لجمعيّة الثقافة العربيّة ومديرتها وأعضائِها العاملين فيها لاحتضان هذه الأمسية، ثمّ تلت مقطوعةً شعريّة كتبتها عن الرّاحل الكريم، تضمّنت ترحيبًا وتقريظًا للرّاحل د. سليم مخولي. أمّا السيّد جمال دياب قدّم كلمة صالون نهى الأدبيّ.
العريفة نهى قعوار تابعت:
في بعض الأحيان يعجز القلمُ عن تسجيل ما بالفِكر من تقديرٍ واحترام وإعجاب بإنسانٍ؛ أضاءَ كشمعةٍ في جميع المجالات، وعلى شاطئِ الحياة تكسّرت أمواجُ هذا الرّجل المعطاء المتميّز والسّخيّ بالأفكار والخلوق بالمعاملة. لقد توقفت سفينتُهُ عن شقّ عباب بحرِهِ الزاخرِ بالكلمات، وتوقّفت نسمة حياة لتنطفئَ معها شمعةٌ كانت تشعُّ بغيرِ حدود بصمتٍ وعطاء، ولكنّه الوداع الذي يحملُ الألمَ بصمتٍ وبالتياع، لكن إذا ذبُلَ عقلُ الشاعر ومات ذبُلَ عقلُ الأمّة، وأصبحت كحديقةٍ بلا أزهارٍ وكشمسٍ بلا أشعّة، فكم بالحري إذا كان شاعرًا ورسّامًا وطبيبًا مثل د. سليم مخولي؟
سينضمُّ إلينا مَن إلى مكتبِهِ يجلسُ وحيدًا لساعاتٍ طوال، خاطًّا طريقَ نجاحِهِ بتفوّقٍ عنيدٍ كينبوعٍ مِن العطاء، نازعًا أشواكَ العمر مِن بين أناملِهِ، وراكضًا إلى غدٍ أكثرَ طموحًا ورخاءً. لقد رتّبَ ونسّقَ كتاباته وأعماله، وزرعَ وانتظرَ الحصادَ سنةً بعدَ سنة وعمرًا بعدَ عُمر، وظلّ فِكرُهُ مُعلّقًا على واجهةِ الدّقائق القليلة في يومِهِ الطويل. لقد أدركَ معنى أن يعيشَ الإنسانُ الكرامة والطموح، فخطَّ طريقَ نجاحِهِ بتفوّق عنيد، لأنّ في داخلِهِ مقياسًا كبيرًا من تحقيق نمطٍ مِن الكمال، فهو يملكُ افكارَهُ الخاصّة به والتي يُقدّمُها في بعض الأحيان للناس، وعندها تكون خارجة من القلب لتدخلَ غلى قلوب مُحبّيه، إنّه ابن كفرياسيف؛
د. بطرس دلّة في مداخلتِهِ: مسرحية الناطور حنين الى الماضي ام سرد للمعاناة الحاضرة؟
وربما يغدرُنا الزمان/ وربّما يحفظنا الزمان/ وربّما نكون بعدَ خطوةٍ/ وربّما لا نكون/ وربّما وربّما وربّما/ نعيش في الوجدان/ ذكرى حنينٍ وألم/ ذكرى فلا يقبلها النّسيان/ على مدى الزمان
لقد اعتاد المسرحيّون الكلاسيكيّون على استقاءِ موادّ مسرحيّاتهم من بطون التاريخ، خاصّةً عندما يكتبون التراجيديّات، لأنّه مِن السّهل استيحاء الفكرة من قصّة معروفة مع شيء من الرّومانسيّة، يُكسبُ السّردَ رونقًا وجمالاً خاصّيْن، وإذا كانَ التّاريخُ سجلاًّ للماضي بروعتِهِ ومآسيه، فإنّ المسرحيّة لا يمكن أن تكون توثيقًا لحدثٍ أو لأحدا،ث بمقدارِ ما هي انعكاسٌ لتجربةٍ أو معاناة، قد يكونُ الكاتبُ عاش تفاصيلَها أو وعى أحداثها فتركت أثرًا في نفسِه. لذلك نجدُ أنّ الكاتبَ يتصرّفُ بالحدثِ التاريخيّ، يُردّدُهُ ويستغلُّهُ كمُحرّكٍ أو دافعٍ موتيف لاحداثِ المسرحيّة الرّئيسيّة، مع خروجٍ هنا وهناك مِن الدّقّة التاريخيّة التي نطلبُها مِن المُؤرّخ المُوثّق فقط، فالكاتبُ ذو خيال واسع لا يمكن أن يتقيّدَ بالحدَث، لأنّ نتاجَهُ سيتحوّلُ عندئذ غلى سردٍ لا يمتُّ الأدبَ بِصِلة.
عن عرب الدّاخل ليسَ لدينا عراقةٌ في الفنّ المسرحيّ، وجمهورُ مشاهدي المسرح العربيّ في "إسرائيل" هو جمهورٌ محدود، لذلك فإنّ تكاليفَ إخراج مسرحيّة ما تفوقُ مدخولَها أحيانًا، ولذلك فإنّ عنصرَ التوفيرِ في الدّيكور المسرحيّ يلعبُ دورًا كبيرًا خلالَ عمليّة الإخراج، حيث يكتفي المُخرجُ بالنّزر اليسيرِ دونَ أيّ بذخ أو تبذير، ثمّ إنّ خشبةَ المسرح قد لا تتّسعُ لكلّ المؤثّراتِ والمُحرّكاتِ الضّوئيّةِ والحركيّة، ناهيك عن ضيق قاعاتِ العَرض خارجَ حدودِ المسرح ذاتِه.
فما هي أحداثُ مسرحيّة النّاطور؟
تدورُ الأحداثُ في فترةٍ زمنيّةٍ حُبلى بالأحداث، ففي عام 1979 صدرت المسرحيّة، وتمّ توقيعُ معاهدة كامب ديفيد بين مصر و"إسرائيل"، وعام 1976 كان يومُ الأرض الذي تحوّلَ ليصبحَ عيدًا وطنيًّا، بقيادة لجنة الدّفاع عن الأراضي؛ التي كان د. سليم مخولي أحدُ قادتِها، وعام 1975 نشبَ النّزاعُ الطائفيُّ والاحترابُ الاهليّ في لبنان، والذي راحَ ضحيّته عددٌ كبيرٌ من الفلسطينيّين، وكانت سياسة مصادرةِ الاراضي العربيّة تجري مِن قِبلِ مختلفِ الحكوماتِ الإسرائيليّة، بشتّى الأساليب والوسائلِ التي يُفصّلُها كاتبُنا مِن خلال سيْرِ أحداثِ هذهِ المسرحيّة.
إذن المسرحيّة ليست حواراتٍ أو سردٍ لأحداث، بل فيها لمعاتٌ متواصلةٌ يَغمرُها شيءٌ كثيرٌ مِن النوستالجيا والحنينِ إلى الماضي، فالناطور بكلّ المسرحيّة لاجئ فلسطينيّ جاء لزيارة القرية بتصريح خاصّ مِن السّلطات الإسرائيليّة، ولمّا وصل المنزول؛ أي المكان الذي يتجمّعُ فيه رجال القرية ليتسامروا، ينظرُ إلى البيوت من حولِهِ، ويرى امورًا لم يعهدْها من قبل، إنّه يذكرُ كلّ شيءٍ حتى بعض الجدران القديمة، التي أخذ يتحسّسُها كأنّها جزءٌ من كيانِهِ القديم الذي جاءَ يبحث عنه.
يجدُ شبابًا مِن نوع آخر غير النوع الذي كان أو اعتادَ عليه. لم يعرفهُ الشباب، لا بل ادّعى أحدُهم انّه شحاذ متسوّل، وادّعى آخرون غيرَ ذلك، إلاّ أنّ العمّ أبو سليمان وهو البطل الثاني للمسرحيّة والذي عاصر الناطور وعاصر "إسرائيل"، هو المخضرم الذي يربطه بالماضي الكثير من الذكريات، عرفَ الناطور شخصيًّا قبلَ أن يفرّ مِن ويلات النكبة، ويتحوّلَ إلى لاجئ خارج حدودِ بلده فلسطين، وهو عائدٌ في زيارة، لأنّه لا يجوزُ له البقاء، ولمّا خافت السّلطات من تأثيرِهِ على نفوس الشباب، فقد اعتقلته وزجّته في السّجن.
يتجمّعُ الشبابُ حولَ أبو سليمان، وتتّحدُ القوى من أجل إعادة الناطور إلى البلد، ولمّا اجتمعت الكلمةُ عادَ الناطور إلى السّاحة، ليقومَ بدورِهِ الذي اعتادَ عليه قبل أن يتحوّلَ إلى لاجئٍ ما بين يوم وليلة، ويُنادي أهلَ البلدة كعادته، ويُردّدُ الجميعُ معَهُ أنشودة "بلادي بلادي لكِ حبّي وفؤادي"، والتي تعتبرُ النّشيدَ القوميّ لشعبنا المتعلّقِ بأرضه، من تلحين السّيّد درويش.
مِن خلال تسلسل الأحداثِ تتشعّبُ الأفكار، ويستعرضً الكاتبً عضلاتِهِ في سرد موبقات حكومات "إسرائيل" وحكّامها، كما لا ينسى ذِكر الحُكم العسكريّ ومصادرة الأراضي، وقوانين الحاضر الغائب وقانون تركيز الأراضي، والمناطق العسكريّة وتسييج المناطق حتى حدود البيوت في القرى المصادَرة أراضيها، كما يستعرضُ في شخص دعيبس سيرة عملاء الوكالة اليهوديّة مِن العرب السّماسرة، الذين يسعَوْنَ في الظلام لإقناع الفلاّح العربيّ ببيع أرضِهِ لليهوديّ، ويعزّ عليهِ تحريم قطف الزعتر بموجب قوانين "إسرائيل"، وبالمقابل نشعرُ بتمسُّكِهِ بالعادات العربيّةِ الأصيلة، كاستقبال الضّيفِ وتبادل الهدايا في المناسبات، وفوقَ كلّ شيءٍ يؤكّدُ الكاتبُ تشبّثَهُ بالأرض على لسان أبطالِهِ، فهذا أبو سليمان يؤكّدُ بهدوء:
"إنّنا نعيش يا أبنائي.. إنّنا باقون فوق الأرض وتحت الأرض باقون"!
ويُصرّ الناطور: "إنّنا نعيشُ في بلادنا سواءَ كنّا فيها أو خارجها، إنّنا نحملُ بلادَنا يا ناطور، إنّنا نحملُ تراب البلاد في أجسادِنا وأنفاسَ بلادنا في صدورنا".
ثمّ يغلبُ الحنينُ على الناطور فيرفع صوتَه قائلا: "وقوفي هنا في ساحة المنزول تساوي الدّنيا وما فيها". ولكنه لا يشعر بالطمانينة، لأنّه غريبٌ في وطنِهِ وغريبٌ في مهْجرِهِ وغريبٌ حيثما حلّ، هذه الغربة القاتلة هي نصيبُ الإنسان الفلسطينيّ حيثما حلّ، لذلك ومن منطلق الغربة والتشرّد اللّذيْن يُعاني منهما إخوانُنا الفلسطينيّون في الخارج، وضياع الأرض التي هي أساس الكيان الوطنيّ والكيان القوميّ، نجدُ أنّ المسرحيّةَ تنضحُ بتعابيرَ تُعبّرُ عن التشبّث في كلّ شبرٍ من البقيّة الباقية من أراضينا، كي لا تضيعَ ويضيعَ بالتالي وجودُنا، إذ ليس الناطور وحدَه ولا أبو سليمان ولا أم عيسى ولا أبو احمد يدعون إلى عدم التنازل عن الأرض، مهما كلّف الحال، بل جميعُ مَن يظهر على خشبة المسرح يدعو إلى التشبّث بالأرض، حيث يستمرّون صارخين وصوتُ الرّصاص مستمرّ:
"هذا غير ممكن.. لن نتركَ أراضينا.. سنموتُ في الأرض ولا نتركُها".
ويظلُّ النّداءُ يتردّدُ على لسان كلّ ممثّل، ولسانُ النّاطور يُنادي الدّول العربيّة والأوروبيّة وأمريكا وهيئة الأمم المتحدة والأمم المبعثرة: "أعينونا كي نستعيدَ ونتشبّث بأراضينا".
مِن كلّ ما ذُكرَ نستنتجُ أمرًا أساسيًّا، أنّ مضمونَ المسرحيّة وفحواها يدوران حولَ قضيّة واحدة، هي قضيّة الإنسان الفلسطينيّ والكيان الفلسطينيّ.
يقولُ أحدُ النقاد، إنّ بعضَ السّردِ وبعض الشّخصيّات قد يُعيقان تطوّر الحدَث، وبالتالي يوقفُ الزّخمَ الذي قد يحصل أثناء تمثيل المسرحيّةِ على خشبةِ المسرح، ولكن والحقُّ يُقال، إنّ المرحومَ د. سليم مخولي لم يُبطئ حركة التمثيل، ولا زخمَ الاندفاع نحو تحرير الأرض ودفْعِ الظّلم اللاحق بالإنسان العربيّ في "إسرائيل"، بل كان كلّما ذَكرَ تفصيلاً جديدًا، يأتي هذا دافعًا ومُحرّكًا لسيْر الأحداث حتى تصلَ الذروة، والذّروة هنا هي في تحرير الناطور بفضل وحدة الإنسان في أرضه، ولا يوجدُ نقيضٌ للذّروة، لأنّه حتى العنصر الغنائيّ كما ذكر هو عاملٌ مُحرّكٌ للشّعورِ بالإحباط العربيّ وتطوُّرِ المسرحيّة نحو القمّة أو العُقدة.
إنّ الهدفَ مِن كتابة المسرحيّة وأيّة مسرحيّة، يجب أن يكون إمّا للتهذيب الأخلاقيّ، وإمّا كي يتعلّمَ الإنسانُ شيئًا جديدًا مِن خلال المتعة والتعلّم.
أمّا الحالة الأولى فلا مكان لها، ولو أنّ المسرحيّة هي من نوع الأدب المُلتزم، فالكاتبُ ملتزمٌ بالقضيّة الفلسطينيّة والدّفاع عنها، لذا لم يبقَ أمامنا سوى الهدف الثاني من كتابة المسرحيّة، ألا وهو المتعة والتعلّم، والمؤلف هنا يُحاولُ أن يُعْلِمَنا ويُعَلّمَنا أنّ الحكوماتِ المتعاقبةَ لدولة "إسرائيل" لم تُنصِف الإنسان العربيّ، لا بل أكثرَ من ذلك، لم تكن متسامحة معه، خاصّة في سنّ القوانين لمصادرة أراضيه!
الرّومانسيّة والنقد:
كلّ عملٍ فنّيّ هو فاشل ما لم يمتزجْ بقليلٍ مِن الرّومانسيّةِ المُحبّبة، خاصّة لدى الشّباب والمُراهقين منهم بشكلٍ خاصّ، فمسرحيّةُ الناطور تقعُ في 126 صفحة من القطع الصّغير، ويبدو أنّ د. سليم مخولي قام ببناء الحبكة بشكل سريع وخاطف، لأنّ كلّ عملٍ أو كلام لا يفيد حركة المسرحيّة، ولا يساعدُ على نموّها وتطوّرها نحو النهاية المحتومة يستلزمُ حذفه، هكذا فإنّ التسلسل الزّمنيّ القائم وتطوّر الأحداث كان يجب أن يؤدَّيا بشكل تدريجيّ وسريع، من أجل تقريب المسرحيّة من نهايتِها، وإذا ما خلت المسرحيّة مِن عنصر التّشويق وتركيز الترقّب تكون فاشلة، إلا أنّ المؤلّف د. سليم مخولي سارعَ في التطوّر الحركيّ، وحصلَ ما لا يمكنُ أن يحصل وبهذه السّرعة، بحيث لم تُعزلْ شخصيّةٌ عن سواها، وظهرَ الممثّلون كمجموعةٍ متناسقةٍ يُكمّلُ واحدها الآخر في توصيل المسرحيّة إلى نهايتها، في قمّة جديدة هي "نشيد بلادي بلادي"!
العقيدة السّياسيّة للمؤلف المسرحيّ:
كلّ كاتب لرواية أو قصّة أو مسرحيّة يجبُ أن يعيش ماضيهِ وحاضرهِ وواقع مستقبلِه، ليرسمَ لنا الخطوط العريضة لِما هو كائنٌ أو لِما سيكونُ في المستقبل القريب والبعيد، وعليه يجبُ أن يكون المؤلف ذا موقفٍ أو صاحبَ وجهة نظرٍ عقائديّة، تحُدُّ اتّجاهَهُ الفكريّ والخلقيّ من مشكلاتِ المجتمع ومن قضيّة الإنسان.
الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر؛ وهو من كبار كُتّاب القصّة وكبار الشخصيّات التي تعاملت مع الرّواية في العالم الرّحب، ادّعى أنّ الممثّلَ يجبُ أن يكون خاليًا من وجهة النظر، لأنّه لو كان ملتزمًا في وجهة النظر لكان تزمّتَ في مهاجمة السّلطة الحاكمةِ ورجالها، ولأهملَ ما هو غير جوهريّ بالنسبة للشّخصيّة، وبمعنى آخر؛ قالَ إنّ تجويفَ الشّخصيّات وترْكها بدون تعريف أو تحقيق يجعلها فارغة من المضمون، ولا مكانَ لها في المسرحيّة.
ثمّ إنّ العكسَ هو الصّحيح، والكاتب الناجح هو ذلك الذي لا يجعلنا نشعرُ بأنّ بعضَ شخصيّاتِهِ هي التي تنوب عنه في نقل طعناته القاتلة إلى المجتمع الذي يكتبُ له، وهذه الطعنات في مسرحيّة الناطور ليست مُوجّهة إلى الشعب الذي يكتب له، بل إلى السُّلطة الحاكمة وإلى أعوانِها من أمثال دعيبس سمسار الأراضي. إنّ هذه البساطة في عرض الشخصيّات المُسطّحة، والتي لا تعقيد فيها هي مخاطرة فنّيّة لعرض التجربة الجماعيّةِ لجماهيرنا العربيّة على أرض الواقع، تلك التجربة التي عانينا منها وما زلنا نعاني حتى اليوم.
بهذا الأسلوب من الواقعية الإيحائيّة لا يحُولُ المؤلف بيننا وبين رؤية السّلوك الاتّجاهيّ لكلّ شخصيّةٍ من شخصيّات الناطور، لأنه يضعُنا وجهًا لوجه ودون تدخُّلٍ أمامَ مستويات التفكير الحقيقيّة لتلك الشخصيّات، من هنا تتضحُ واقعيّة د. مخولي الإيجابيّة تجاه قضايا شعبه، وفي مقدّمتها قضيّة الأرض الملتهبة منذ ما قبل النكبة.
إنّ الواقعيّة الإيجابيّة تظهرُ واضحة في تجسيم المشكلات، ولا يهمُّنا أي أسلوب يتّبعُ الكاتب، المهمّ أن يعرضَ أمامَنا المشكلة، ويتركنا في صراع حول إمكانيّات الخروج من مأزق مواجهتها، ولكن لا يلبث أن ينعطفَ ويُعطينا الحلّ الذي كنّا نريدُ مِن كلّ قلوبنا الحصولَ عليه، وإذا كان العرضُ المذكور هو عريضة احتجاج على واقع أليمٍ للجماهير العربيّة، فإنّ د. مخولي يدعونا إلى التعاطف مع شخصيّاتِه وتبَنّي مواقفِها كجمهور قرّاء ومشاهدين، وبما أنّه نجح في كسب عطفِنا على شخصيّة الناطور، وتأييدنا لمواقف باقي شخوص المسرحيّة، لذا يُعتبر الكاتب فنّانًا والكتابُ لوحة فنيّة، إذا ما وجدَ مَن يُمثّلُهُ ويدخل الرّوحَ المتوثّبة الثوريّة، التي يريدُها لنا الكاتبُ على خشبة المسرح.
هناكَ مقولة شهيرة لأحد كبار المُفكّرين مؤداها؛ "إنّ العلمَ هو أساسُ الحياة الحديثة، وإنّ العلماء هم أنبياءُ هذا العصر"، ويقول الناقد د. أنور المعدّاوي في كتابه "كلمات في الأدب" ص 55:
"الكاتبُ العالم والخليق بهذا الاسم حقا، يجب أن يكون على رأس المجاهدين، أمّا وثبة الحياة فهي في إزالة أسباب الألم، ذلك أنّ مجتمعنا متألّمٌ جدّا ويجبُ أن نزيلَ هذا الألم أوّلاً وقبلَ كلّ شيء".
مسرحيّة الناطور سريعة النّصّ ذات كثافة عالية، تجعل الفصول قصيرة والمواضيع التي اختارها سريعة الاستعراض، وهذه إحدى ملاحظاتنا على المسرحيّة، ونحن كجمهور قراء نتمتّع بهذه السّرعة، إلاّ أنّ القارئ العادي قد يخسر الشيءَ الكثير.
المبنى اللّغويّ:
يسعى د. مخولي في مسرحيّة الناطور سعيًا حثيثا للوصول إلى الهدف، ألا وهو الكشف عن سياسة الملاحقات الغاشمة لكلّ ما هو عربيّ، وسياسة مصادرة الأراضي والحُكم العسكريّ والتمييز ضدّ العرب، إلخ من سلسلة ملاحقة العربيّ من حيث كونه عربيًّا، وهو من أجل ذلك يعودُ إلى التراث العربيّ الفلسطينيّ، التراث الذي انقلبَ جزءٌ كبير من مفاهيمِه مع إقامة "إسرائيل"، فالمسرحيّة التي تدور أحداثها في الزمن الحاضر تنضحُ بالتعابير الكلاسيكيّة القديمة، التي وظّفها الكاتبُ من أجل بلوغ الهدف.
هذا الصّراع بين الكلاسيكي الموروث وبين الحاضر الذي نعيشه، يجعل المسرحيّة ذات بُعديْن او أكثر في التعبير عن الهموم والمعاناة اليوميّة لجماهير شعبنا، وهو من أجل ذلك يلجأ إلى أسلوب الخطاب المقطوع والمفاجئ المليء بالصّور والتشبيهات الحديثة، جنبًا إلى جنب مع التشبيهات والصّور القديمة، لتحملَ بُعدًا جديدًا ومضمونًا مُغايرًا يتماشى مع متطلبات السّاعة، حتى ولو اضطرّهُ الأمر غلى استعمال الكلمات العبريّة والتلاعب باللفظ العربيّ على لسان اليهوديّ الخطيب، هذا التلاعب فيه نوع من سخريةٍ لاذعة، لأنّ العربيّ إذا تعلّم العبريّة أتقن لفظها كما يجب، لكن اليهوديّ نادرًا ما يتقن لفظ الكلمات العربية، فتأتي مستهجنة ركيكة وقد توحي بعكس المطلوب.
من هنا نجدُ أنّ بعضَ الصّور اللّغويّة تحمل أكثرَ من إيحاء، بسبب ذلك الأمر الذي يجعلُك تحلّقُ أثناء مشاهدة المسرحيّة وأثناء قراءتها، والتحليق هنا موظّفٌ توظيفًا جيّدًا، وهو اقتلاع القارئ أو المشاهد من موقفه اللامبالي وجذبه بعنف إلى لبّ الموضوع، لأنّ الاطار اللّغوي لا يفسّر المضمون بأيّ حال، بل بالعكس قد يزيدُهُ عُمقا.
وفي هذا السّياق نجد أنّ عفويّة السّرد والتي هي عنصرٌ مُهمُّ من عناصر السّرد في الحكاياتِ الشّعبيّة تتغلّب على التعقيد اللّغويّ، وقد يعتقد البعض أنّ هذه العفويّة لا يمكن أن تنسجمَ مع الواقع المعقد الذي يعيشُهُ عربُ هذه البلاد، إلاّ أنّ كاتبنا نجح أيما نجاح في تحقيق هذه العفويّة، على عكس الرّوايات الحديثة التي تبحث عن السّببيّة في تسلسل الأحداث، هذه العفوية تُذكّرنا بالقصص الشعبيّة التي قرأناها في كتاب "ألف ليلة وليلة"، أو كتاب "كليلة ودمنة" وغيرها من الأدب الشعبيّ الكلاسيكيّ، ومع ذلك فالكاتب مُقيّدٌ فيما يسرد، لأنّه مضطرٌّ في كلّ الحالات إلى ملاءمةِ النّصّ اللّغويّ بثقافةِ أبطالِه الذين يأتي بهم إلى خشبة المسرح، وهو ناجح في ذلك، حيث يجمعُ بين عفويّة الشباب واستهتارهم بالناطور الذي ظنّوه شحاذا بادئ ذي بدء، وبمساعدة أبو سليمان يكتشف الشبابُ سرَّ الناطور، ويتغيّر الموقفُ إلى انسجام في المواقف على الرغم من التفاوتات اللّغويّة، وكلٌّ يفهمُ لغة الآخر في الحوار البسيط والمتقطع الذي يدور في الفصل الأوّل والأخير.
أخيرًا..
وبما أن صديقنا المرحوم د. سليم مخولي كان متأثّرًا بهوْل النكبة 1948 ونكبة حرب 1967 وحرب 1973، هذه النكبات بآلامِها المفجعة وآمالِها المُرتقبة، جعلت نصّ المسرحيّة يبدو صارخًا خطابيًّا مُباشِرًا في عدّة مواقف، وحتى متفجّعًا ساذجًا رغم عفويّتِه في مواقفَ أخرى، باعتباره انعكاسًا لتفاعلِ الكاتب مع الواقع ورؤيتِه الخاصّة لحركة هذا الواقع.
الفنّ هنا سمة خاصّة مِن سماتِ المجتمع العربيّ في ظروفٍ خاصّة جدّا، هي ظروفُ حضور الذات في حضارة الغير، والإنسانُ الفلسطينيّ الذي صحا بعدَ سقوط فلسطين وإقامة "إسرائيل"، صحا على وجود ذاته في حضارة غريبة، جعلت اهتماماتُهُ الآنيّة تتنوّعُ حسبَ تنوّع الظروف القسريّة التي صهرَته في بوتقةٍ واحدة مع هذه الحضارة الغريبة، التي نفر منها أوّلاً ثمّ ما لبث أن عبّ منها بكلّ ما أوتِيَ مِن طاقات وإمكانيّات، ثمّ أخذ يُقلّدُها لا بل تبنّى الكثير من مدلولاتها، لتصبحَ جزءًا من كيانه ومن ذاته الجديدة!
إذن؛ نجد أنّ المبنى اللغويّ جاء خليطًا من المشاركة اللغويّة المنضبطة أحيانا، والمُنفلتة أحيانا أخرى من قيودِ التّزمُّت، بسبب البيئة المادّيّة والإنسانيّةِ الجديدة التي وَجدَ نفسَهُ فيها، فبهرته وشدّت انتباهَهُ إلى كلّ جديد، وكان هذا الجديدُ مُحبطًا جارفًا في تيّارِهِ القويّ، وإنّنا إذ ننتقلُ إلى التعميم، لنجدَ أن أدبنا المحليّ والمسرحيّ على قلّتِهِ اقتطعَ لنفسِهِ مكانًا محترمًا في مضمار الأدب والثقافة المحليّيْن، كما ترك أصداءً واسعة في العالم العربيّ كلّه، ود. مخولي استطاع في هذه المسرحيّة أن يُقدّمَ لنا تجربة عظيمة الخِصب، وأثبتَ أنّ الشّكلَ الفنيّ الناضج والوعيَ الفنّيّ الناضج قادران على تطويع كلّ الأساليب لخدمةِ التجربة الإنسانيّة.
قالت العريفة نهى قعوار:
عندما ينبلجُ ضوءُ الصّبح تفقدُ الشمسُ ذاكرتها، وتُحوّلُ سوادَ اللّيل إلى ضوء نهار مشتاق لرؤية اخضرار الرّبيع، هكذا نشعرُ ونحن نستقبلُ ضيفًا عزيزًا على قلوبنا، جاءنا مِن أعالي الجليل يحملُ كلماتِهِ الرّقيقة والمُعزّية الممزوجة بالفلسفة الهادفة، التي تُشعِلُ المشاعرَ الإنسانيّة بتشابُكِ أفكارها وكلماتها، كعنقودِ العنب تحملُ حكمة البشر وتعزية وحزن الناس، فيها الحكمة وفيها الحبّ الصّادق البعيد عن التملّق. إنّه
د. منير توما في ملامحُ داء جنون العظمة البارانويا عند الحاكم في مسرحيّة الزينة لد. سليم مخولي:
يمكن تصنيف الملك في مسرحيّة الزينة لد. سليم مخولي بأنه يندرجُ ضمن الشّخصيّات التي تعاني من مرض البارانويا، فالملك يمارسُ الطّغيانَ والاستبدادَ في حُكمِهِ، ولا يرى في رعاياه سوى قطعان مِن البهائم، له حقّ التّصرّفِ في مصائرهم كما يشاء، سواء أكان ذلك بالإذلال أو القتل، ويُرجّحُ أنّ ذلك نابعٌ من مرض البارانويا الذي تفاقم لديه، كما تُصوّرُ لنا المسرحيّة من خلال تواتر الحوار والأحداث فيها، ويُصنّفُ مرضُ البارانويا بأنّه ذُهانٌ وظيفيّ، ويُعرَفُ بجنون العظمةmegalomania ، لأنّ أهمَّ ما يُميّزُ المَرضَ أنّه يُشعِرُ المريضَ بالعظمة، وأنّه صاحبَ منصبٍ رفيع أو جاهٍ لا مثيلَ له، كما يَشعُرُ مريضُ البارانويا بالغيرة الشديدة والشّكّ في الآخرين وأهدافِهم، ويُفسّرُ سلوكَهم مِن وجهةِ نظرِهِ هو، كما فعلَ الملكُ في المسرحيّة مع وزيره، ولذلك كثيرًا ما يعملُ مريضُ البارانويا على إيقاع غيره في مشاكلَ ينسجُها من خيالِه، وجنونُ العظمة هذا الذي يُعاني منه المَلكُ هو مرضٌ نفسيٌّ خطير، إذ يُخالفُ الواقعَ ويدّعي امتلاكَ قابليّاتٍ استثنائيّة وقدراتٍ جبّارة، والمريضُ عادةً يعتقدُ بشكل قاطع بامتلاكِهِ صفاتٍ غير واقعيّة وعظمة وهميّة، ولا يقتنعُ بمخالفةِ الآخرين له في هذا المضمار، والذي يُصابُ بمرض جنون العظمة يرى نفسَهُ فقط ولا يرى الآخرين، كما هو الحال مع الملك في هذه المسرحيّة، وكما قالَ الشاعر العربيّ قديمًا:
ما أكثرَ النّاسَ لا بل ما أقلَّهم/ الله يعلمُ أنّي لم أقل فنَدا/ إنّي لأفتحُ عيني حين أفتحُها/ على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
فهو يعيش في عالَم الوهم المُكتسَب، ويعتقدُ أنّ كلَّ الناس رهْنُ إشارتِهِ وطوْعُ أمرِه:
"الملكُ عظيمٌ عظيم! صدّقْ هذا.. هذا الحشريّ أي قيمة لهذه الجموع؟ إنّهم مُخنّثون بل إناث، لا يعرفون سوى الطاعة كالخِراف، طاعة القطيع خوفًا مِن الكرابيج. كلّ الجمع مؤنّث... ها.. ها..." ص34.
الملك: "إذن مَن هُم؟ هل العبيد؟ سأقتلُ كلّ العبيد، فرؤوسُهم لي مشاعٌ وهي من أرخص المتاع" ص39.
إنّ وهْمَ الاعتقادِ بالعظمةِ يجعلُ الشّخصَ المُصابَ به لا يقبلُ من أحدٍ أن يُنزلَهُ مِن عرْشِهِ ولا أن يُزحزحَه، ويكون لدى المرضى المصابين بهذا الدّاء حساسيّة مُفرطة للرّفض أو المَساس بهم، وهم يَشعرونَ أنّ الآخرين يُسيئون إليهم، مع أنّه ليسَ هناك تبريرٌ موضوعيّ لهذا الشعور.
وكما نرى في مسرحيّتنا هنا فإنّ المَلكَ صاحبَ الشّخصيّة البارانويّة المُصابَة بداء جنون العظمة، يمتاز كنموذج لهذه الشخصيّة، بكوْنِها عدوانيّة عنيدة كثيرة الانتقاد، وحسّاسة تجاهَ ذاتها اكثر من اللاّزم، تميلُ إلى النزاعات والصّراعات التي لاحاجة لها، وتُبالغُ في الحفاظ على مكانتِها وحقّها في امورٍ مختلفة كالسّلطة المطلقة عند الملك في هذه المسرحيّة:
"الملك.. الرّعيّة! الرّعية لا تطيع؟! هذه البهائم لا تطيع؟ مَن يستطيع أن يعصى أمري؟ أنا الملك الجبار الشديد لو شئت قيّدت الشمس بالحديد، وحبست القمر في علبة سردين فلا يظهر من جديد. اِبتعدْ عنّي اغرُبْ عن وجهي أيّها الغراب الماكر، قبلَ أن آمُرَ بأن تقتلك العساكر" ص 40.
وتتجلّى الشخصيّة البارانويّة في الملك بوضوح، بكوْن ثقة هذه الشخصيّة بالآخرين ضئيلة جدًّا، حيث يميل الملك صاحب هذه الشخصيّة إلى الشّكّ بالآخرين وقتلهم لخيانتهم له وغدرهم وهجرهم له، ومِن الصّعب أن يصلَ إلى وضع الراحة والمتعة، لأنّ عليه دائمًا أن يكون جاهزًا ومُستعدًّا، كما أنّ سلوكه يخلق الشعور والانطباعَ بالتّصلّب والبرود الشعوريّ، حيث أنّ علاقته بالمحيط عمومًا تتدهورُ باستمرار، وتزداد هذه العلاقات سوءًا بازدياد الشعور لديهم بأنّ كلّ الناس سيّئون.
"الملك مخاطِبًا الوزير:
أما زلتَ هنا يا وجه النحس، ولك بين كتفيْك رأس؟ تتجرّأ وتتكلم بعدما عكّرت مزاجي وطيّرت فرحتي في عيدي وابتهاجي؟ لولا حِلمي وأناتي لقطعت رأسك في الحال، لكن ساطيّرُ غضبتي في رأس هذا المنحوس (مشيرًا إلى الرجل). حظّك كبير أيّها الوزير، فقد جاء مَن يَفديكَ مِن حُكم مقدور. خذوا هذا الرّجل اقطعوا رأسَه وارموه للكلاب!
الرّجل: العفو العفو يامولاي، أنا والله صادق فيما قلت. والله صادق.. والله صادق.
الملك: إذن هذا جزاء صِدقك. يسحبه الجنود خارجًا ويتابع... الصّدقُ صِدقي أنا، والكلّ كلّ النّاس كذابون ص 45-46.
ومن اللافت أنّ أصحاب الشخصيّة البارانوية التي يُمثلها الملك هنا يستخفّون بالضّعفاء، وليس لديهم أيّ تعاطفٍ مع آلامِهم، ومن الصّعب أن تظهرَ لديهم مشاعر الليونة أو اللطافة أو الحساسيّة تجاه الآخرين، وإنّ اجهزة الدّفاع الفعّالة لدى أصحاب هذه الشخصيّة هي الإنكار والتبرير، وكلّ هذه المعاني تظهر جليًّا في النصّ التالي في المسرحيّة:
الملك واقفًا: الويل لكم جميعًا.. الويل لهذا الشعب اللئيم.. الويل لهؤلاء الرّعاع.. الويل لهم.. يُنغّصون حياتي في عيدي الكبير؟ أكلوا الزينة! أزالوا معالمَها من الطرقات ويتجرّؤون ويطلبون عدلاً ورحمة؟ هذا جوابي لكم وهذا عدلي.. سأهدمُ فوق رؤوسكم المدينة.. آه منكم! حتى الآن لم يدخل عليّ أحدٌ ليُهنّئني بعيدي الملوكيّ؟ الويل لهم لا أحد منهم؟ أين أهل البلد وأين الناس؟ يا للعجب! أنا الملك الجبار.. أنا الملك العظيم يا للعار!
وعند الحديث عن إصابة الملك بالبارانويا أو جنون العظمة، فإنّه لا بدّ لنا أن نشيرَ عندَ هذه النقطة، إلى أنّ مَن يُعاني من هذا الاضطراب الجنونيّ يكون الجوع الجنسيُّ لديهِ مُفرِطًا، وهذا ما نلحظُهُ مِن حديثِ الوزير مع الملكة حول معاشرة الملك للجواري، ووصْفِهِ لها حادثة مطارحة الملك الغرام لإحدى الجواري الفاتنات في الحديقة، مع كلّ ما صاحبَ ذلكَ مِن أوصافِ الشّبق والمشاهد الجنسيّة المثيرة، كما يتّضحُ لنا من كلام الوزير في حوارِهِ التالي مع الملكة:
"الوزير: بل جذبَها بعنفٍ إليه وأجلسَها على ركبتيه، وراحَ يُقبّلها بنهم من شفتيها حتى ساقيها وهي تتأوّه وتحنو عليه، تتلوّى كأفعى أليفة بين يديه" ص 19.
ويمتزجُ جنونُ العظمة لدى الملك بظاهرة الغرور المستفحِل عنده، حيث تظلُّ الظنون الخاصّة تؤثر بالجهاز العصبيّ لمثل هذه الشّخصيّةِ البارانويّة، حتى تصبح نشاطاتُها منسجمةً مع أخطاء الفِكر، ومِن هذا الخطأ ينشأ الشعور بالغرور، ويتصوّرُ الفِكر أنّه قادرٌ أن يفعلَ كلّ شيء بما لديه مِن الظروف والإمكانيّات، وباستغراق هذه الحالةِ يتطوّرُ الغرورُ إلى حقد لا يتورّعُ عن أن يتمنّى الإضرارَ بالآخرين، أو مخالفتهم ليشعر بأنه يفوقهم درجةً مِن درجات الصّعود المهزوزة أصلا:
"الملك: وهل تجرؤ الرّياحُ دخولَ مدينتي دون إذن؟ كيف يمكنها أن تفعلَ هذا؟ يا للرّياح الوقاح! سأسجن الرّيحَ إذا هبّت. اِذهبوا وسدّوا مداخلَ الأسوار كي لا تتسلّل الرّياحُ منها. اِذهبوا وزيّنوا المدينة مِن جديد ص 39.
إنّ مرضَ جنون العظمة من أصعبِ الأمراضِ علاجًا، وتأتي صعوبة العلاج لأنّ الإحساسَ بالعظمةِ يتمركز حولَ الذات التي لها ثبات نسبيّ، ويتطلّبُ العلاجُ إحداثَ تغييرٍ في مفهوم المريض عن ذاته وقدراته وإمكاناته، وهو ما يجعله يضعُ قدميْه على أرض الواقع، ويُبعدُهُ عن شطحاتِ الخيال، فالعواملُ المتعلّقة بالشّعور والحسّ كالحزن مثلاً، يمكن أن يتسبّبَ في إيقاظِه مِن هذه الحالة، وهذا ما حدث مؤقّتًا مع الملك، حين بلغه خبرُ مرض ولدِهِ المُفتعَل وإشرافِهِ على الموت، دون وجودِ طبيبٍ يُداويهِ ويُبعدُ عنه خطرَ الموت، فالملك حينها عرفَ قيمة الحياة، وتحرّكَ فيه الإنسان ليصحوَ ويتراجع عن غيّهِ وغروره، ويتلاشى جنون العظمة لديه مؤقّتًا، إلى حين عِلمِهِ بحقيقة عدم مرض ابنه الذي كان مفتعَلاً ومُدبَّرًا، وبالتالي فإنّ أمكانيّة علاج الملك بتأثير صدمة مرض ابنه المفتعل يبدو مستحيلاً، لدى هذا الشخص الذي يُعاني من اضطرابات الشخصيّة البارانويّةparanoid personality disorder ، وبخاصّة إذا استفحلَ هذا المرضُ ووصلَ بصاحبهِ إلى حدّ الجنون الحقيقيّ كما يتضحُ في نهاية المسرحيّة.
ولا بدّ لنا مِن كلمةٍ حول عنوان هذه المسرحيّة الزّينة، حيث وردَ في حوار الوزير مع الملك، إنّ "الابتسامة في المدينة هي الزينة، وليست الأعلامُ وأقواسُ النصر والبالونات والشّعارات وغيرها"، ومع هذا فإنّنا نعتقد بأنّ كاتبَ المسرحيّة أرادَ أن يوحي لنا من خلال أحداث المسرحيّة وتداعياتها، أنّ الزّينة للإنسان وخاصّة للحاكم هي العقل، فإذا ما فقدَ الإنسانُ أو الحاكمُ عقله وأصيبَ بالجنون، فإنّه يكون بذلك قد فقد زينة حياتِه، فالعقلُ زينة الإنسان.
ومِن زاوية أخرى فقد وردَ في القرآن الكريم الآية القائلة بأنّ: "المالُ والبنونُ زينةُ الحياةِ الدّنيا"، فالملكُ حين علمَ بمرض ابنه المفتعَل، أصيبَ بالذعر في أن يموتَ ابنُهُ ويفقدَ أحدَ عمودَيْ زينةِ حياتِه الدّنيا وهو الابن، ومِن هنا فإنّ عودة الملك عن غيّه وغروره وجنون العظمة لديه مؤقّتًا، كانَ بفِعلِ الخوف من فقدان زينة حياتِهِ أي ولدِه بالموت، حيث كانت هذه الحادثة بكلّ حيثيّاتِها وما تأتّى بعدَها نقطةً مفصليّة ومحوريّةً في خلاصة وخاتمةِ المسرحيّة، لتكون "الزينة" غالبًا متجسّدة في ابن الملك المجنون المخلوع، باعتبارِهِ أملاً جديدًا للشّعب المقموع المقهور، كحاكمٍ عادل رحيم مدعوم برعاية والدته الملكة.
هكذا وبعد أن تناولنا بالدّراسة والتحليل الجانب النفسيّ في المسرحيّة المتمثل في دار البارانويا أو جنون العظمة عند الحاكم الملك، فإنّني أجدُ من المناسب أن أشيرَ إلى الحقيقة، بأنّ الحوارَ الدّراميّ من أهمّ العناصر الفعّالة والحيويّة التي يقوم عليها بناء المسرحيّة، فمِن خلاله يستطيعُ المضمون أن يُعبّرَ عن نفسه، وإذا كانت الحبكة بمواقفِها وأحداثِها تُمثّلُ الهيكل العظميّ للمسرحيّة، فالحوارُ هو اللّحم والخلايا والشرايين، ويبرز دورُ الحوار في إسعافِ وإطلاق المسرحيّة من عقالها، ممّا يُساعدُ في استمرارها، فالكاتبُ المسرحيّ لا يملك السّردَ الذي يستطيعُهُ المؤلف الرّوائيّ، والذي يساعدُهُ على التعليق على الأحداث وتحليل الشخصيّات وإلقاءِ الأضواء على ما يدورُ بداخلها، وربْطِ المواقفِ ببعضها البعض، وسدّ الفراغات التي قد تنشأ في التسلسل الدّراميّ.. إلخ.
أمّا الكاتب المسرحي فلا يملك هذه التّسهيلات الرّوائيّة، فهو يعتمد على الحوار كأفضل أداةٍ للكشف عن داخل شخصيّاتِهِ وتحليلها والتعليق عليها، وإحكام تسلسل المواقف وتتابعها، وسدّ الفراغاتِ التي تؤثّر في متانةِ البناءِ وعضويّتِه، ويتوقّفُ مدى نجاحِهِ أو فشلِهِ في إخراج عملِه المسرحيّ إلى الوجود، بمدى توفيقِهِ في استغلال الحوار، وإنّني أعتقدُ وأرى أنّ د. سليم مخولي قد نجحَ نجاحًا ملموسًا في معالجةِ وتناول الجوانب التقنيّة للبناء الدّراميّ للمسرحيّة، لا سيّما وأنّه أدخلَ شخصيّة الرّاوي ضمنَ شخصيّاتِ المسرحيّة، حيث تجنّبَ بمهنيّةٍ واضحةٍ إدخالَ عنصر السّرد الرّوائيّ المباشِر، واتخذ ببراعةٍ الكاتبُ المتمكّن من الرّاوي بديلاً للبرولوج prologue والإيبلوجepilogue كما في المسرحيّةِ القديمة، كما الكوروسchorus في المسرحيّة اليونانيّة القديمة، حيث أنّ وظيفة هذه العناصر المسرحيّة ليس السّرد الإيضاحيّ، وإنّما التعليق الكاشف عن مواقف غامضة أو خافيةٍ أو استشرافيّة، بهدف الغضافة إلى الحوار الدّراميّ عندَ الشخصيّات.
وممّا يستحقّ الذكر والإشادة، أن د. سليم مخولي قد التزم بالمواصفات العامّة التي لا بدّ مِن توافرِها في الحوار الدّراميّ، فقد كان الحوارُ لديه مُركّزًا ومُكثّفًا ومشحونًا بالمعاني والدّلالات والمشاعر، وتفادى الإطنابَ في الحوار، لأنّ الإطنابَ في مثل هذه الحالات كفيلٌ بإصابة الحوار بالأورام والنتوءات، التي تميّعُ مفعولَهُ الدّراميّ الحاسم، كذلك فقد راعى بمهارةٍ المستوياتِ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة والثقافيّة المختلفة للشخصيّات، بحيث تناسبت مع مستويات الحوار والتراكيب اللّغويّةِ المستخدَمةِ فيه، فالشّخصيّة في المسرحيّة لا تجدُ سوى الحوار لكي تُعبّرَ به عن نفسِها، وقد وضع د. سليم مخولي ككاتبٍ مسرحيٍّ الإيقاعَ في اعتباره عندَ كلّ كلمةٍ كتبَها هنا، فالإيقاعُ هو الذي يمنحُ المسرحيّة نغمتها النفسيّة والانفعاليّة الخفيّة، وبدونه قد تفقد شخصيّتها المتميّزة، أمّا الحوار فهو الذي يخلق المواقفَ ويُطّورُ الشّخصيّاتِ ويُحدّدُ مسار الأحداث، ويرتفع بها إلى ذروة التعقيد ويهبط معَها حتى النهاية.
وتقول العريفة نهى قعوار:
هو ابن قرية سيرين المُهجّرة، عاش وترعرع كلاجئ ومُهجّرٍ في وطنه، في مدينة الناصرة التي احتضنت آلافَ اللاّجئين والمُهجّرين الفلسطينيّين العرب، الذين طُردوا من بلادهم وبيوتهم بعد نكبة 1948. يُمارس عملَه ككاتب وصحفيّ ذكيّ سريع البديهة، حسن السّيرة والسّلوك، صادق في عمله وحبه لأصدقائه، ينقل لنا في صالون نهى الأدبيّ كمًّا كبيرًا من المعلومات من خلال مطالعاته للأدب العربيّ والغربيّ، عمله يعتمد على الموهبة وتثقيفه الذاتيّ، فليس كلّ مَن يكتب يستطيع الكتابة ككاتب، لكنّه كاتب وأديبٌ مُتعدّدُ المواهب.
ناجي ظاهر في مداخلته بعنوان سليم مخولي كاتبا مسرحيا، ما له وما عليه:
قدّم استعراضا سريعا لفن المسرح، فقال أنه وُلد في المعابد اليونانية القديمة كطقس تعبّديّ، وتطوّر على يدي الكاتبيْن البارزين يوربيدس وأرسطوفانس، ثمّ تطوّر في أوروبا، وانتقل إلى عالمنا العربيّ في القرن الثامن عشر، أمّا أجدانا العرب القدماء فلم يعرفوا إلاّ أشكالاً بسيطة من المسرح، وتساءل هل أراد الراحل الكريم أن يُدلي بدلوه في هذا الفن الهامّ؟
تضمّنت محاضرة الظاهر العديد من الملاحظات منها: طغيان المباشرة على مسرحيتي المرحوم، وعدم تطوّر الشخصيّات، والالتزام السّياسيّ الذاتيّ الذي مارسه المرحوم على ذاته، بسبب التزام سياسيّ قطعه على نفسه على ما يبدو.
وقدّم الشاعر جورج فرح مرثاة للمرحوم الشاعر والفنان سليم مخولي:
عرفتك منذ بدأنا المسيرة/ منذ صباك ومنذ صبايا/ فكنت الصديق الصدوق الوفي الخلوق/ الأمينَ الحليمَ الكريمَ السَّجايا/ نبذتَ النَّميمةَ والكِبْرياءَ/ وأحسَنتَ ظَنًّا بِكُلِّ البَرايا/ رَكِبتَ البُحورَ وخُضْتَ القَوافي/ جَعَلتَ بُيوتَ القَصيدِ مَطايا/ وجمَّعْتَ بينَ يدَيْكَ الفنونَ/ وخَيْرَ العُلومِ وخَيْرَ المزايا/ فَكُنتَ الطَّبيبَ، وكُنتَ الأديبَ، وذا ريشةٍ لَوَّنَتْ في سَمانا مَرايا/ فانعِم بتلكَ المرايا/
سليمٌ... لَعمريَ أنتَ السليمُ الحكيمُ الجديرُ بكلِّ العَطايا/ عَرَفْتَ بأنّا نحبُّكَ حبًّا تنزَّهَ عن غايةٍ أو قضايا/ وأنَّ الرحيلَ يعزُّ عَلينا/ ويجعلُ مِنّا القلوبَ شَظايا/ فغافلتَ منّا العُيونَ لتمضي/ فكَيفَ السَّبيلُ لقهرِ المنايا؟!
كما تحدث الأديب محمد علي سعيد بنبذة قصيرة عن علاقته بالمرحوم وصدقه الأدبي والفكريّ دون مواربة. وفي نهاية اللقاء جرى نقاش شارك فيه الجمهور، وطالبوا بالتطرّق إلى جوانب إبداعيّة أخرى من إنتاج الراحل د. سليم مخولي، مثل الشعر والفن التشكيلي وله فيهما إنتاج وفير في أمسيات أخرى وأنهى اللقاء نجل المرحوم حبيب سليم مخولي بقصيدة لوالده كتبها عن الموت عام 2002، وشكر الحضور والقيّمين على هذه الأمسية الخاصة بذكرى الوالد.